كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ فَشُرُوطُ الْأَرْبَعَةِ وَجَبَ الرَّجْمُ، وَلَمْ يَكُنِ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِيهِ من شروط الإحصان. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِسْلَامُ شَرْطٌ خَامِسٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْجِنَايَةِ: فَإِنْ عُدِمَ، سَقَطَ الرَّجْمُ: احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ. وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهَا عَنْكَ، فَإِنَهَا لَا تُحْصِنُكَ. قَالَ: وَلِأَنَّهَا حَصَانَةٌ مِنْ شَرْطِهَا الْحُرِّيَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِسْلَامُ كَالْحَصَانَةِ فِي الْقَذْفِ. وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ لَمْ يُرْجَمْ كَالْعَبْدِ. وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا، وَلَا يَرْجُمُ إِلَّا مُحْصَنًا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَصَانَةِ الرَّجْمِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِالتَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَرْجُمْهُمَا بِشَرِيعَتِهِ: لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ صُورِيَّا، وَقَدْ حَضَرَهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْيَهُودِ: أَسْأَلُكُمْ بِاللَّهِ مَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالَ: الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ. فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ التَّوْرَاةِ: لِتُقْرَأَ عَلْيَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا فِي قِرَاءَتِهَا إِلَى مَوْضِعِ الرَّجْمِ وَضَعَ ابْنُ صُورِيَّا يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الرَّجْمِ. فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَفْعِ يَدِهِ، فَإِذَا فِيهِ ذِكْرُ الرَّجْمِ يَلُوحُ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ صُورِيَّا أَجِدُ فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ، وَلَكِنْ كَثُرَ الزِّنَا فِي أَشْرَافِنَا فَلَمْ نَرَ إِقَامَتَهُ إِلَّا عَلَى الْأَدْنِيَاءِ وَنَدَعُ الْأَشْرَافَ، فَجَعَلْنَاهُ الْجَلْدَ وَالتَّحْمِيمَ وَالتَّجْبِيَةَ،- يُرِيدُ بِالتَّحْمِيمِ تَسْوِيدَ الْوَجْهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْحُمَمَةِ وَهِيَ الْفَحْمَةُ. وَيُرِيدُ بِالتَّجْبِيَةِ: أَنْ يَرْكَبَا عَلَى حِمَارٍ أَوْ جَمَلٍ وَظَهْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ- فَرَجَمَهُمَا حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا. قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الْمَائِدَةِ: 49] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ بِتَوْرَاتِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِ الرَّجْمُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ كَانَ حُكْمُهُ بِشَرِيعَتِهِ لَا بِالتَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا أَحْضَرَهَا لِإِكْذَابِهِمْ عَلَى إِنْكَارِهِمْ وُجُودَ الرَّجْمِ فِيهَا. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَلْدِ الْكَامِلِ إِذَا كَانَ بِكْرًا، كَانَ وَطْؤُهُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا كَالْمُسْلِمِ: وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ رَجْعَتَيْنِ فِي نِكَاحٍ كَانَ مُحْصَنًا كَالْمُسْلِمِ، وَفِيهِمَا احْتِرَازٌ مِنَ الْعَبْدِ وَمِنْ غَيْرِ الْوَاطِئِ فِي نِكَاحٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ. أَيْ: لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ مِنْ قَبِيحٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إِحْصَانِ الْقَذْفِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَرَاوِيهِ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ كَعْبٍ، وَابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ضَعِيفٌ، وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَمْ يَلْقَ كَعْبًا، فَكَانَ مُنْقَطِعًا. وَلَوْ صَحَّ، لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: فَإِنَهَا لَا تُحْصِنُكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّرْغِيبَ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَاتِ وَالتَّزْهِيدِ فِي نِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ تَحْصِينَ الزِّنَا فِي أَصْحَابِهِ لِيُرْجَمُوا، وَقَدْ صَانَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لِاخْتِيَارِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِهِ وَالْجِهَادِ عَلَيْهِ مَعَ رَسُولِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهَا لَا تَعْفِكَ عَنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا، إِمَّا لِقُبْحِهَا أَوْ سُوءِ مُعْتَقَدِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قِيَاسٌ يَدْفَعُ النَّصَّ، فَكَانَ مُطَّرَحًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى فِي حَصَانَةِ الْقَذْفِ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ فِيهَا، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا الْإِسْلَامُ، [لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ الْعِفَّةَ فِي حَصَانَةِ الزِّنَا، كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الْإِسْلَامُ].
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ: فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِمَنْ لَيْسَ بِعَفِيفٍ يُرْجَمُ إِنْ زَنَا، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُكْمَلْ جَلْدُهُ فَلَمْ يَجِبْ رَجْمُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فصل: وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُحْصَنُ لَمْ يَرْتَفِعْ إِحْصَانُهُ فِي الرِّدَّةِ، وَلَا إِذَا أَسْلَمَ، وَكَانَ حَدُّهُ الرَّجْمَ إِنْ زَنَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: قَدِ ارْتَفَعَ إِحْصَانُهُ بِرِدَّتِهِ، وَلَا يَعُودُ إِلَى الْإِحْصَانِ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى يَطَأَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ. فَجَعَلَ اسْتِدَامَةَ الْإِسْلَامِ شَرْطًا فِي بَقَاءِ الْحَصَانَةِ، كَمَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْحَصَانَةِ: احْتِجَاجًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» وَلِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَأْنَفَ شَرَائِطُ الْحَصَانَةِ فِيهِ، كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، وَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ لَهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي اشْتِرَاكِ الْإِسْلَامِ فِي إِحْصَانِهِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ دِمُ امِرِئٍ مُسْلِمِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثِ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَهَذَا زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْقَتْلَ. وَكَانَ تَحْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسًا فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ الرَّجْمَ كَالَّذِي لَمْ يَرْتَدَّ، وَلِأَنَّهُ إِحْصَانٌ ثَبَتَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ، قِيَاسًا عَلَى حَصَانَةِ الْقَذْفِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْخَبَرِ فَلَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُسْلِمِ بَعْدَ الرِّدَّةِ: لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَسَقَطَ. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَغَيْرُ مُسْلِمٍ فِي أَصْلِهِ: لِأَنَّ الْكَافِرَ يَكُونُ عِنْدَنَا مُحْصَنًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ فِي بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ.
فصل: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ، فَجَمِيعُهَا شُرُوطٌ فِي الْحَصَانَةِ، وَبِكَمَالِ الْحَصَانَةِ يَجِبُ الرَّجْمُ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ. وَذَهَبَ شَاذٌّ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْحَصَانَةِ وَاحِدٌ فِيهَا، وَهُوَ الْإِصَابَةُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ من شروط الإحصان، وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الْبُلُوغُ من شروط الإحصان وَالْعَقْلُ من شروط الإحصان وَالْحُرِّيَّةُ من شروط الإحصان، شُرُوطُ وُجُوبِ الرَّجْمِ دُونَ الْحَصَانَةِ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ مُؤَثِّرٌ فِي الصَّحِيحِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ إِذَا أَصَابُوا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ زِنَا الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ، وَالْمَجْنُونِ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ، وَالْعَبْدِ بَعْدَ عِتْقِهِ، فَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ شُرُوطِ الْحَصَانَةِ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلْدَ دُونَ الرَّجْمِ حَتَّى يَسْتَأْنِفُوا، وَالْإِصَابَةُ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ كَمَالِهِمْ، وَمَنْ جَعَلَهَا مِنْ شُرُوطِ الرَّجْمِ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الرَّجْمَ بِالْإِصَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ كَمَالِهِمْ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَجْهٌ. وَإِذَا كَانَتِ الْإِصَابَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَصْلًا فِي الْحَصَانَةِ لَمْ تُحْصَنِ الْإِصَابَةُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَلَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ: لِأَنَّهَا إِصَابَةُ كَمَالٍ لِاعْتِبَارِهَا فِي كَمَالِ الْحَدِّ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا أَكْمَلَ أَسْبَابِهَا، وَالنِّكَاحُ أَكْمَلُ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ: لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَشْرَفُ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ وَأَفْضَلُ: لِاجْتِمَاعِ الشَّرَائِعِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا كَامِلَيْنِ بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَيَتَحَصَّنَا مَعًا فِيهِ بِإِصَابَةِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، إِذَا غَابَ بِهَا الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ، سَوَاءٌ كَانَ عَقِيبَهَا إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَأَيُّهُمَا زَنَا رُجِمَ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا نَاقِصَيْنِ مَعًا: لِصِغَرٍ، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ رِقٍّ، فَلَا حَصَانَةَ بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ مَا كَانَ النَّقْصُ بَاقِيًا، فَإِنْ زَالَ النَّقْصُ فَفِي ثُبُوتِ الْحَصَانَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِصَابَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كَامِلًا بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ، وَالزَّوْجَةُ نَاقِصَةً: لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ رِقٍّ، فَيَثْبُتُ فِيهِ حَصَانَةُ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ زَالَ نَقْصُ الزَّوْجَةِ فَفِي ثُبُوتِ حَصَانَتِهَا بِالْإِصَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَجْهَانِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ كَامِلَةً بِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ دُونَ الزَّوْجِ، فَيُنْظَرُ فِي نَقْصِ الزَّوْجِ: فَإِنْ كَانَ بِرِقٍّ أَوْ جُنُونٍ تَحَصَّنَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ. فَإِنْ زَالَ نَقْصُ الزَّوْجِ، فَفِي ثُبُوتِ حَصَانَتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إِصَابَتِهِ وَجْهَانِ. فَإِنْ كَانَ نَقْصُ الزَّوْجِ لِصِغَرٍ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَا يُسْتَمْتَعُ بِإِصَابَتِهِ: لِطُفُولَتِهِ كَابْنِ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعٍ، لَمْ يُحْصِنْهَا وَلَمْ يَتَحَصَّنْ بِهَا. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُسْتَمْتَعُ بِمِثْلِهِ كَالْمُرَاهِقِ فَفِي تَحْصِينِهَا بِإِصَابَتِهِ قَوْلَان:
أحدهما: وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: لَا يُحْصِنُهَا وَلَا يَتَحَصَّنُ بِهَا: لِضَعْفِ إِصَابَتِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي:- نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ- قَدْ حَصَّنَهَا وَإِنْ لَمْ يَتَحَصَّنْ بِهَا: لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِصَابَةِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ كَإِصَابَةِ الشَّيْخِ، وَهَذَا شَرْحُ مَذْهَبِنَا فِي كَمَالِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ نَاقِصًا لَمْ يَتَحَصَّنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. فَنَفَى الْحَصَانَةَ عَنِ الْكَامِلِ: لِانْتِفَائِهَا عَنِ النَّاقِصِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ النَّقْصُ بَرِقٍّ لَمْ يَتَحَصَّنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ بِصِغَرٍ تَحَصَّنَ الْكَامِلُ مِنْهُمَا. وَهَذَا خَطَأٌ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَدِّ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَصَانَةِ بِمَثَابَتِهِ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ.
فصل: فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّانِيَيْنِ مِنْ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ فَيُرْجَمَانِ مَعًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فِي الرَّجْمِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَا بِكْرَيْنِ فَيُجْلَدَانِ مَعًا، عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فِي الْجَلْدِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا، وَالْآخَرُ بِكْرًا، فَيُرْجَمُ الْمُحْصَنُ مِنْهُمَا، وَيُجْلَدُ الْبِكْرُ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقْصُرَا عَنْ حُكْمِ الْمُحْصَنِ وَالْبِكْرِ بِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ يُزِيلُ الْقَلَمَ عَنْهُمَا، فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُعَزَّرُ الصَّبِيُّ مِنْهُمَا دُونَ الْمَجْنُونِ إِنْ كَانَ يُمَيِّزُ أَدَبًا، كَمَا يُؤَدَّبُ فِي مَصَالِحِهِ حَتَّى لَا يَنْشَأَ عَلَى الْقَبَائِحِ. وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِّ إِمَّا مُحْصَنًا أَوْ بِكْرًا، وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَدِّ إِمَّا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَيُحَدُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِّ زَانِيًا كَانَ أَوْ زَانِيَةً، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَمَّنْ لَيْسَ مَنْ أَهِلِهِ زَانِيًا كَانَ أَوْ زَانِيَةً، وَلَا يَكُونُ سُقُوطُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا لِسُقُوطِهِ عَنِ الْآخَرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: سُقُوطُ الْحَدِّ عَنِ الزَّانِيَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطُهُ عَنِ الزَّانِي، وَسُقُوطُهُ عَنِ الزَّانِي يُوجِبُ سُقُوطُهُ عَنِ الزَّانِيَةِ: فَيُحَدُّ الْعَاقِلُ إِذَا زَنَا بِالْمَجْنُونَةِ، وَلَا تُحَدُّ الْعَاقِلَةُ إِذَا زَنَتْ بِمَجْنُونٍ احْتِجَاجًا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنًا: لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ زَانِيًا، وَالْمَجْنُونُ جَاهِلٌ بِتَحْرِيمِ الزِّنَا فَلَمْ يَكْ وَطْؤُهُ زِنًا، وَالتَّمْكِينُ مِمَّا لَيْسَ بِزِنًا لَا يَكُونُ زِنًا، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاطِئَ مَتْبُوعٌ: لِأَنَّهُ فَاعِلٌ. وَالْمَوْطُوءَةُ تَابِعَةٌ: لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ. فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْفَاعِلِ الْمَتْبُوعِ، سَقَطَ عَنِ التَّابِعِ الْمُمْكِنِ: لِأَنَّ الْمَتْبُوعَ أَصْلٌ، وَالتَّابِعَ فَرْعٌ، فَاسْتَحَالَ ثُبُوتُ الْفَرْعِ مَعَ ارْتِفَاعِ أَصْلِهِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنْ كُلَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا بِوَطْئِهَا إِذَا مَكَّنَتْ عَاقِلًا، وَجَبَ عَلَيْهَا بِوَطْئِهَا إِذَا مَكَّنَتْ مَجْنُونًا، كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فِي وَطْءِ رَمَضَانَ. وَلِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنِ الْوَاطِئِ لِمَعْنًى يَخُصُّهُ، لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنِ الْمَوْطُوءَةِ، كَالْمُسْتَأْمَنِ الْحَرْبِيِّ إِذَا زَنَا بِمُسَلِّمَةٍ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ دُونَهُ. وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَوِ اخْتَصَّ بِالْمَوْطُوءَةِ لَمْ يَمْنَعْ وَجُوبُهَ الْحَدَّ عَلَى الْوَاطِئِ، وَجَبَ إِذَا اخْتَصَّ بِالْوَاطِئِ أَنْ لَا يُمْنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ، كَاعْتِقَادِ الشُّبْهَةِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ حُكْمُ الْمَوْطُوءَةِ بِالْوَاطِئِ فِي حَقِّهِ الْحَدُّ إِذَا زَنَتِ الْحُرَّةُ بِعَبْدٍ وَالثَّيِّبُ بِبَكْرٍ، لَمْ يُعْتَبَرْ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ إِذَا زَنَتِ الْعَاقِلَةُ بِمَجْنُونٍ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ وَطْءَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ بِزِنَا: فَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا ثَابِتٌ فِيهِ: لِانْتِفَاءِ النَّسَبِ عَنْهُ، وَلَوِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الزِّنَا عَنْهُ لَحِقَ النَّسَبُ بِهِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ: لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ: بِأَنَّ الْوَاطِئَ مَتْبُوعٌ: فَهُوَ بَاطِلٌ بِصِفَةِ الْحَدِّ لِمَا جَازَ أَنْ تُرْجَمَ الْمَوْطُوءَةُ، وَإِنْ جُلِدَ الْوَاطِئُ، جَازَ أَنْ تُجْلَدَ الْمَوْطُوءَةُ وَإِنْ لَمْ يُجْلَدِ الْوَاطِئُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَرْعٌ عَلَيْهِ الزِّنَا فِي مُسْتَيْقِظٍ وَنَائِمٍ، فَإِنْ زَنَا رَجُلٌ بِنَائِمَةٍ حُدَّ دُونَهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ كَزِنَا الْعَاقِلِ بِمَجْنُونَةٍ، وَإِنِ اسْتَدْخَلَتِ الْمَرْأَةُ ذَكَرَ نَائِمٍ حد الزنا حُدَّتْ عِنْدَنَا، وَلَمْ تُحَدَّ عِنْدَهُ، كَالْعَاقِلَةِ إِذَا زَنَتْ بِمَجْنُونٍ اعْتِبَارًا بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ النَّائِمِ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا رُجِمَ الزَّانِي أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَاتِ فِي غَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُسِّمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَلَا يَمْنَعُ قَتْلُهُ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَقْتُولِ قَوَدًا، وَلَمْ يُكْرَهْ لِلْإِمَامِ الْحَاكِمِ بِرَجْمِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ لَهُ: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَاعِزٍ حِينَ رَجَمَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى الَّتِي رَجَمَهَا مِنْ جُهَيْنَةَ- وَأَحْسَبُهَا الْغَامِدِيَّةَ- فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَرْجُمُهَا ثُمَّ تُصَلِّي عَلَيْهَا. فَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، هَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا. وَجَلَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسَ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهَا. وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُكْرَهُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ فَلَمْ تُكْرَهْ لِلْإِمَامِ، كَالصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الزَّانِي. فَأَمَّا مَاعِزٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِعَارِضٍ، وَيَكْفِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْضُرَ رَجْمَهُ وَيَتْرُكَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا حَكَمَ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحُكَّامِ بِرَجْمِ زَانٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ وَلَا شُهُودُ الزِّنَا حُضُورَ الرَّجْمِ، سَوَاءٌ رَجَمَ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَجَمَ بِإِقْرَارٍ لَزِمَ حُضُورُ الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ بِالرَّجْمِ. وَإِنْ رَجَمَ بِالْبَيِّنَةِ لَزِمَ حُضُورُ الشُّهُودِ دُونَ الْإِمَامِ: لِأَنَّ الْإِمَامَ أَخَصُّ بِهِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالشُّهُودُ أَخَصُّ بِهِ فِي الشَّهَادَةِ: لِجَوَازِ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ إِنْ شَهِدُوا بِزُورٍ. وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَحْضُرْهُ، وَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» وَلِأَنَّهَا إِقَامَةُ حَدٍّ فَلَمْ يَلْزَمْ حُضُورُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْقَذْفِ، وَلِأَنَّهَا إِفَاتَةُ نَفْسٍ فَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ حُضُورُهُمَا، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ حُضُورُهُ فِي حَدِّ الْبِكْرِ لَمْ يَلْزَمْ حُضُورُهُ فِي حَدِّ الثَّيِّبِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الزَّانِيَيْنِ.
فصل: فَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامُ وَالشُّهُودُ الرَّجْمَ لَمْ يَجِبْ الِابْتِدَاءُ بِالرَّجْمِ عَلَى أَحَدٍ، وَبَدَأَ بِهِ مَنْ شَاءَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رُجِمَ بِإِقْرَارِهِ بَدَأَ بِرَجْمِهِ الْإِمَامُ، ثُمَّ الشُّهُودُ، ثُمَّ النَّاسُ. وَإِنْ رُجِمَ بِالْبَيِّنَةِ بَدَأَ بِرَجْمِهِ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ: احْتِجَاجًا بِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَرَ رَجْمَ الْغَامِدِيَّةِ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَنَّهُ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَوْ فَعَلَ لَنُقِلَ. وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ الْمُبْتَدِئُ كَسَائِرِ الْحُدُودِ.
فَصْلٌ الْقَوْلُ فِي صِفَةِ الرَّجْمِ:
فَأَمَّا صِفَةُ الرَّجْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَرَ فِيهِ عَوْرَةُ الْمَرْجُومِ إِنْ كَانَ رَجُلًا، وَيُسْتَرُ جَمِيعُ بَدَنِهَا إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً. وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ قَبْلَ رَجْمِهِ لِتَكُونَ خَاتِمَةَ أَمْرِهِ. وَإِنْ حَضَرَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُمِرَ بِهَا، وَإِنْ تَطَوُّعَ بِصَلَاةٍ مُكِّنَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ. وَإِنِ اسْتَسْقَى مَاءً سُقِيَ، وَإِنِ اسْتَطْعَمَ طَعَامًا لَمْ يُطْعَمْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَاءَ لِعَطَشٍ مُتَقَدِّمٍ وَالْأَكْلَ لِشِبَعٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَلَا يُرْبَطُ وَلَا يُقَيَّدُ، وَيُخَلَّى وَالِاتِّقَاءُ بِيَدِهِ. وَاخْتَارَ الْعِرَاقِيُّونَ: أَنْ يُحْفَرَ لَهُ حُفَيْرَةً يَنْزِلُ فِيهَا إِلَى وَسَطِهِ. وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مُخْتَارٍ فِي رَجْمِ الرَّجُلِ، سَوَاءً رُجِمَ بِشَهَادَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ. وَيَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ: لِتَأْخُذَهُ الْأَحْجَارُ مِنْ جَوَانِبِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَاعِزٍ حِينَ رَجَمَهُ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُحْفَرُ لَهَا إِنْ رُجِمَتْ بِالشَّهَادَةِ حُفَيْرَةٌ تَنْزِلُ فِيهَا إِلَى صَدْرِهَا: لِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إِلَى الثَّنْدُوَةِ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْتَرَ لَهَا وَأَصُونَ، فَإِنْ رُجِمَتْ بِإِقْرَارِهَا فَفِي الْحَفْرِ لَهَا وَجْهَان:
أحدهما: لَا يُحْفَرُ لَهَا: لِيَكُونَ عَوْنًا لَهَا عَلَى هَرَبِهَا إِنْ رَجَعَتْ عَنْ إِقْرَارِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُحْفَرَ لَهَا تَغْلِيبًا لِحَقِّ صِيَانَتِهَا وَسِتْرِهَا، قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْفَرَ للْغَامِدِيَّةِ إِلَى الصَّدْرِ وَكَانَتْ مُقِرَّةً.